السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها المسلمون:
اتقوا الله تعالى بفعل ما أمر، وترك ما حذَّر، واعلموا أنه سبحانه يعلم ما تسرون وما تعلنون، قال عز وجل: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ). [سورة البقرة، الآية: 235]. واخشوا يوماً عظيماً تقفون فيه أمام الملك الجبَّار جل جلاله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ). [سورة آل عمران، الآية: 30].
أيُّها الإخوةُ في الله:
جُبلت القلوب على محبة من أحسن إليها، وطُبعت على تعظيم وطاعة من أنعم عليها ولو كان مخلوقاً ضعيفاً، فكيف إذاً بالخالق العظيم، والربِّ الكريم، الذي هو أحقُّ من ذُكر، وأحقُّ من شُكر، وأحقُّ من عُبد، وأحقُّ من حُمد، وأجود من سُئل، وأوسع من أعطى، وأكرم من قُصد.
مطالبُ الخلق كلهم جميعاً لديه، وهو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، أعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمِّله، يشكر القليل من العمل وينمِّيه، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه، يحبُّ أن يسأل، ويغضب إذا لم يسأل، فكيف لا تحبُّ القلوب، وكيف لا ترهب من لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يجيب الدعوات، ويُقيل العثرات، ويغفر الخطيئات ويستر العورات، ويكشف الكربات، ويغيث اللهفات، ويُنيل الطلبات سواه؟!.
لا إله إلا هو؛ الخالق البارئ المصوِّر، المستحقُّ أن يُعبد ويُخاف، وحده لا شريك له.
عبَاد الله:
إن الخوف من الله عز وجل وخشيته في السر والعلن، من صفات المؤمنين حقَّاً فلقد مدح أهله وأثنى عليهم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُون * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ). [سورة المؤمنون، الآيات: 57- 61].
وعن هذه الآية سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: "يا رسول الله، قولُ الله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ): أهو الذي يزني، ويشرب الخمر ويسرق؟! فقال: لا يَا ابنة الصِّدِّيق، ولكنَّه الرَّجل؛ يصوم ويصلي ويتصدق، ويخاف أن لا يُقبل منه".
قال الحسن البصري رحمه الله: "عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن تردَّ عليهم. إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءةً وأمناً".
إنّ الخوف من الله فرض على كل أحد، ولهذا عُلِّق على الإيمان، فمن كان مؤمناً حقَّاً خاف الله سبحانه، قال تعالى: (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). [سورة آل عمران، الآية: 175].
وقال سبحانه: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). [سورة البقرة، الآية: 40].
وقال جلّ وعلا: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ). [سورة المائدة، الآية: 44].
وهذا الخوف الذي نوَّه الله بأهله في القرآن، ودعا إليه، إنما هو الخوف القائم على مراقبة الله والخضوع لأمره، وترك المحرمات خوفاً منه وتعظيماً له سبحانه، فهو يستلزم الرجوع إلى الله والاعتصام بحبله وبابه، كما قال بعضهم: "الخوف سوط الله يقوِّم الشاردين عن بابه". وقال آخر: "الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بها رتبة القرب منه سبحانه".
أيها المسلمون:
إنّ القلب ما دام مستشعراً روح الخوف من الله فإنه يظل عامراً بالإيمان واليقين، ومن هنا قال بعض السلف: "ما فارق الخوف قلباً إلا خَرِب". وقال آخر: "إذا سكن الخوفُ القلوبَ أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها".
فيقظة الخوف من الله في نفس المؤمن تثمر عنده الابتعاد عن الشهوات المحرمة، ولهذا قال ابن رجب رحمه الله: "القدر الواجب من الخوف ما حَمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثاً للنفوس على التَّشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتَّبسُّط في فضول المباحات كان ذلك فضلاً محموداً، فإن تزايد على ذلك بأن أَورث مرضاً أو موتاً أو همَّاً لازماً بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة إلى الله عز وجل لم يكن محموداً".
وقال ابن القيِّم رحمه الله: "القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيِّد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى فُقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر". أ. هـ [تهذيب مدارج السالكين 272].
أيُّها المسلمون:
من خاف القيام بين يدي الله عز وجل وخاف حكم الله فيه، ونهى نفسه عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها فمنقلبه ومصيره إلى روضات الجنات، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). [سورة النازعات، الآية: 40-41]. وقال سبحانه: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ). [سورة الرحمن، الآية: 46].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظلِّهِ يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمامٌ عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّقٌ بالمساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه".[متفق عليه].
وقال صلى الله عليه وسلّم: "ثلاثٌ منجيات: خشية الله تعالى في السرِّ والعلن، والعدل في الرِّضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر. وثلاثٌ مهلكات: هوىً مُتَّبع، وشحٌّ مُطاع، وإعجاب المرء بنفسه". [البزّار والبيهقي، وهو حسن بطرقه].
أيُّها المسلمون:
ما أحوج مجتمعات المسلمين إلى وجود الخوف من الله في القلب، لأن المرء حينما ينعدم وازع الخوف أو يضعف في نفسه يجعله شبيهاً بالحيوان؛ يلهو ويرتع ليتمتع، ويجمع لينتفع، ويسطو على حقوق الغير، وينتهك الحرمات، ويفعل الكبائر والموبقات، وبذلك تفشو في المجتمع الرذيلة، وتنعدم الفضيلة، فيأمن القوم مكرَ الله وبأسه، فيأخذهم وهم غافلون، قال الله تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ). [سورة النحلَ، الآية: 45- 47].
ولا يُعدُّ خائفاً من لم يكن للذنوب تاركاً.
والخوف من الله ليس شكلاً خارجياً يتمثل في صيحةٍ أو أنَّةٍ، فقد لا يكون الخائف من يبكي ويمسح عينيه، بل الخائف من يترك ما يخاف أن يُعاقب عليه.
وللخوف من الله ثمراتٌ جليلة: فهو يدفع المرء لفعل الطاعات، ويكفُّه عن المحرمات، فهو يؤمن باطِّلاع الله عليه ونظره إليه: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). [سورة الحديد، الآية: 4].
يروى "أن إنساناً دخل في غابة كثيرة الشجر فقال: لو خلوت ها هنا بمعصيةٍ، من كان يراني؟! فسمع هاتفاً بصوت جهوري: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). [سورة الملك، الآية: 14] ".
فمن عَلِمَ مراقبة الله، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه معه حيث كان حمله هذا العلم على الخوف منه وترك ما يغضبه:
إذَا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يوماً فَلا تَقُل خَلَوْتُ ولكن قُل عليَّ رَقيبُ
وَلا تحسـبَنَّ اللهَ يغفـلُ ساعَـةً وَلا أنَّ ما تُخفِي عليهِ يَغيبُ
وكان بعض السَّلف يقول: "زهَّدنا الله وإياكم في الحرام، زهد من قدر عليه في الخلوة، فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته".
إنَّ الخوف من الله يدعو صاحبه على محاسبة النفس، وإلجامها بلجام التقوى، والبُعد عن الكبر والعُجب والرياء والحسد، وجميع ما يسخط الرب.
والمؤمن الخائف يتذكر موقفه بين يدي الله فيزداد إيمانه وخشيته لربه سبحانه، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). [سورة الأنفال، الآية: 2]. وقال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). [سورة الحـج، الآيات: 34- 35].
بارك الله لنا جميعاً في القرآن العظيم، ونفعنا بمواعظه وزواجره.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها المسلمون:
اتقوا الله تعالى بفعل ما أمر، وترك ما حذَّر، واعلموا أنه سبحانه يعلم ما تسرون وما تعلنون، قال عز وجل: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ). [سورة البقرة، الآية: 235]. واخشوا يوماً عظيماً تقفون فيه أمام الملك الجبَّار جل جلاله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ). [سورة آل عمران، الآية: 30].
أيُّها الإخوةُ في الله:
جُبلت القلوب على محبة من أحسن إليها، وطُبعت على تعظيم وطاعة من أنعم عليها ولو كان مخلوقاً ضعيفاً، فكيف إذاً بالخالق العظيم، والربِّ الكريم، الذي هو أحقُّ من ذُكر، وأحقُّ من شُكر، وأحقُّ من عُبد، وأحقُّ من حُمد، وأجود من سُئل، وأوسع من أعطى، وأكرم من قُصد.
مطالبُ الخلق كلهم جميعاً لديه، وهو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، أعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمِّله، يشكر القليل من العمل وينمِّيه، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه، يحبُّ أن يسأل، ويغضب إذا لم يسأل، فكيف لا تحبُّ القلوب، وكيف لا ترهب من لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يجيب الدعوات، ويُقيل العثرات، ويغفر الخطيئات ويستر العورات، ويكشف الكربات، ويغيث اللهفات، ويُنيل الطلبات سواه؟!.
لا إله إلا هو؛ الخالق البارئ المصوِّر، المستحقُّ أن يُعبد ويُخاف، وحده لا شريك له.
عبَاد الله:
إن الخوف من الله عز وجل وخشيته في السر والعلن، من صفات المؤمنين حقَّاً فلقد مدح أهله وأثنى عليهم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُون * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ). [سورة المؤمنون، الآيات: 57- 61].
وعن هذه الآية سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: "يا رسول الله، قولُ الله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ): أهو الذي يزني، ويشرب الخمر ويسرق؟! فقال: لا يَا ابنة الصِّدِّيق، ولكنَّه الرَّجل؛ يصوم ويصلي ويتصدق، ويخاف أن لا يُقبل منه".
قال الحسن البصري رحمه الله: "عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن تردَّ عليهم. إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءةً وأمناً".
إنّ الخوف من الله فرض على كل أحد، ولهذا عُلِّق على الإيمان، فمن كان مؤمناً حقَّاً خاف الله سبحانه، قال تعالى: (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). [سورة آل عمران، الآية: 175].
وقال سبحانه: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). [سورة البقرة، الآية: 40].
وقال جلّ وعلا: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ). [سورة المائدة، الآية: 44].
وهذا الخوف الذي نوَّه الله بأهله في القرآن، ودعا إليه، إنما هو الخوف القائم على مراقبة الله والخضوع لأمره، وترك المحرمات خوفاً منه وتعظيماً له سبحانه، فهو يستلزم الرجوع إلى الله والاعتصام بحبله وبابه، كما قال بعضهم: "الخوف سوط الله يقوِّم الشاردين عن بابه". وقال آخر: "الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بها رتبة القرب منه سبحانه".
أيها المسلمون:
إنّ القلب ما دام مستشعراً روح الخوف من الله فإنه يظل عامراً بالإيمان واليقين، ومن هنا قال بعض السلف: "ما فارق الخوف قلباً إلا خَرِب". وقال آخر: "إذا سكن الخوفُ القلوبَ أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها".
فيقظة الخوف من الله في نفس المؤمن تثمر عنده الابتعاد عن الشهوات المحرمة، ولهذا قال ابن رجب رحمه الله: "القدر الواجب من الخوف ما حَمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثاً للنفوس على التَّشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتَّبسُّط في فضول المباحات كان ذلك فضلاً محموداً، فإن تزايد على ذلك بأن أَورث مرضاً أو موتاً أو همَّاً لازماً بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة إلى الله عز وجل لم يكن محموداً".
وقال ابن القيِّم رحمه الله: "القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيِّد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى فُقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر". أ. هـ [تهذيب مدارج السالكين 272].
أيُّها المسلمون:
من خاف القيام بين يدي الله عز وجل وخاف حكم الله فيه، ونهى نفسه عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها فمنقلبه ومصيره إلى روضات الجنات، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). [سورة النازعات، الآية: 40-41]. وقال سبحانه: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ). [سورة الرحمن، الآية: 46].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظلِّهِ يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمامٌ عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّقٌ بالمساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه".[متفق عليه].
وقال صلى الله عليه وسلّم: "ثلاثٌ منجيات: خشية الله تعالى في السرِّ والعلن، والعدل في الرِّضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر. وثلاثٌ مهلكات: هوىً مُتَّبع، وشحٌّ مُطاع، وإعجاب المرء بنفسه". [البزّار والبيهقي، وهو حسن بطرقه].
أيُّها المسلمون:
ما أحوج مجتمعات المسلمين إلى وجود الخوف من الله في القلب، لأن المرء حينما ينعدم وازع الخوف أو يضعف في نفسه يجعله شبيهاً بالحيوان؛ يلهو ويرتع ليتمتع، ويجمع لينتفع، ويسطو على حقوق الغير، وينتهك الحرمات، ويفعل الكبائر والموبقات، وبذلك تفشو في المجتمع الرذيلة، وتنعدم الفضيلة، فيأمن القوم مكرَ الله وبأسه، فيأخذهم وهم غافلون، قال الله تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ). [سورة النحلَ، الآية: 45- 47].
ولا يُعدُّ خائفاً من لم يكن للذنوب تاركاً.
والخوف من الله ليس شكلاً خارجياً يتمثل في صيحةٍ أو أنَّةٍ، فقد لا يكون الخائف من يبكي ويمسح عينيه، بل الخائف من يترك ما يخاف أن يُعاقب عليه.
وللخوف من الله ثمراتٌ جليلة: فهو يدفع المرء لفعل الطاعات، ويكفُّه عن المحرمات، فهو يؤمن باطِّلاع الله عليه ونظره إليه: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). [سورة الحديد، الآية: 4].
يروى "أن إنساناً دخل في غابة كثيرة الشجر فقال: لو خلوت ها هنا بمعصيةٍ، من كان يراني؟! فسمع هاتفاً بصوت جهوري: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). [سورة الملك، الآية: 14] ".
فمن عَلِمَ مراقبة الله، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه معه حيث كان حمله هذا العلم على الخوف منه وترك ما يغضبه:
إذَا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يوماً فَلا تَقُل خَلَوْتُ ولكن قُل عليَّ رَقيبُ
وَلا تحسـبَنَّ اللهَ يغفـلُ ساعَـةً وَلا أنَّ ما تُخفِي عليهِ يَغيبُ
وكان بعض السَّلف يقول: "زهَّدنا الله وإياكم في الحرام، زهد من قدر عليه في الخلوة، فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته".
إنَّ الخوف من الله يدعو صاحبه على محاسبة النفس، وإلجامها بلجام التقوى، والبُعد عن الكبر والعُجب والرياء والحسد، وجميع ما يسخط الرب.
والمؤمن الخائف يتذكر موقفه بين يدي الله فيزداد إيمانه وخشيته لربه سبحانه، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). [سورة الأنفال، الآية: 2]. وقال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). [سورة الحـج، الآيات: 34- 35].
بارك الله لنا جميعاً في القرآن العظيم، ونفعنا بمواعظه وزواجره.